ذاك ما يتبادر إلى الذهن بعد قراءة البيان الذي أصدره الكاتب أحمد بوزفور، معلنا فيه رفضه لجائزة المغرب للكتاب، التي يسميها، مثلما يسميها مثقفون وكتاب مغاربة آخرون غيره، »جائزة وزارة الثقافة«. فبعد حوالي ثلاثة أشهر على إعلان الكاتب المصري صنع الله إبراهيم من القاهرة رفضه لجائزة الرواية العربية، يعلن القاص المغربي أحمد بوزفور بدوره، لكن من الدار البيضاء هذه المرة، »اعتذاره« عن عدم استطاعته قبول »جائزة وزارة الثقافة«. ومثلما انتظر صنع الله الإعلان رسميا عن الجائزة كي يعلن عن رفضه لها، لم يصدر بوزفور بيانه إلا بعد أن أعلنت وزارة الثقافة المغربية رسميا عن الفائزين بجائزة المغرب لهذا العام في بيان نشرته معظم الصحف المغربية. لكن هذا التقارب، أو التماثل، بين الحالتين لا يعني أن أسباب الرفض هي نفسها هنا وهناك، ولا أن طريقة »الاعتذار عن قبول الجائزة« تسوق التبريرات نفسها وبالأسلوب نفسه: فبينما تحدث صنع الله ابراهيم، وبشكل عام، عن »الكارثة« التي امتدت »إلى كل مناحي حياتنا«، حيث »لم يعد لدينا مسرح أو سينما أو بحث علمي أو تعليم. لدينا فقط مهرجانات ومؤتمرات وصندوق أكاذيب.. لم تعد لدينا صناعة أو زراعة أو صحة أو عدل.. تفشى الفساد والنهب ومن يعترض يتعرض للامتهان والضرب والتعذيب«؛ كان بوزفور أكثر وضوحا وتحديدا وجرأة في بيانه، فتحدث عن أشياء ملموسة وعبر عن موقفه منها بلغة لم تعد مألوفة في الساحة الثقافية المغربية منذ مدة، وخاصة منذ صعود أحزاب المعارضة إلى الحكم عام 1998، ضمن ما أطلق عليه وقتها »حكومة التناوب«. في البيان يحدد أحمد بوزفور موقفه من عدة قضايا آنية يذكرها دون التواء: الديمقراطية والانتخابات والسلطة الفعلية للحكومة؛ كيفية التعامل مع صفحات سوداء من تاريخ المغرب الحديث يتفق الكل على طيها لكن مع ميل لأن يكون ذلك بدون محاسبة للمسؤولين عنها؛ التراخي في محاسبة مدراء وموظفين سامين نهبوا عددا من المؤسسات العمومية كانوا يتولون إدارتها؛ عدم التعامل بما يكفي من الجدية مع ظاهرة عامة لشباب يسلمون أجسادهم للموج هربا من واقع لا يجدون أنفسهم فيه إلى سراب (أوروبي) لا يحمل إلا الموت، إن لم يكن هو الموت نفسه؛ غياب »التغطية الصحية« للكتاب المغاربة الذين يضطر كل من سقط مريضا منهم إلى تقديم »ملتمسات الرحمة وطلب العلاج«، إلخ... أهم شيء في البيان، ربما، وبعيدا عن الموقف السياسي الذي يمكن أن نتفق أو نختلف معه، هو هذا الحديث عن الخجل من نيل جائزة عن كتاب طبعت منه ألف نسخة فحسب، »لم أوزع منها يقول الكاتب في أسواق شعب من ثلاثين مليون نسمة إلا خمسمائة نسخة، وهي ما تزال معروضة لم تنفد بعد رغم مرور أكثر من عامين«. هذه الجملة وحدها تشخيصية وكاشفة لأزمة فعلية يتهرب الكل من الحديث عنها، وتضع جائزة الكتاب نفسها موضع نقاش. لم تنجح الجائزة السنوية، وهذا من بين أهدافها المعلنة، في تنشيط سوق الكتاب بالمغرب. والكتاب الذي كان يطبع منه في المتوسط، قبل عشر سنوات، ثلاثة آلاف نسخة، تراجع كيلا يتعدى عدد المطبوع منه ألف نسخة، تجد صعوبة قصوى في الوصول إلى قارئها المنشود، فوق ذلك. عشرات من دور النشر الوليدة أغلقت أبوابها، وما تبقى منها قائما يعاند في كبرياء وبروح قتالية من أجل تأخير النهاية لأطول مدة ممكنة. ليست الجائزة مسؤولة عن هذا التراجع، طبعا. هناك غلاء الكتاب، وهناك سوء توزيعه وانعدام الإعلان عنه؛ هناك، كذلك، تزايد نسبة الأمية وانتشار وسائط أخرى للثقافة والمعرفة (من قبيل شرائط الفيديو والأقراص المضغوطة)؛ إلا أن هنالك بالخصوص تراجع الاهتمام بالثقافة والمعرفة وبالكتاب كقيمة في المجتمع: لقد انتهت سلطة المعرفة، وصارت المعرفة مرتهنة بالسلطة السياسية (سلطة الدولة وسلطة الأحزاب). هل يمكن أن نتحدث عن »موت المثقف«؟. يتحدث بوزفور في بيانه عن دور كان حريا بوزارة الثقافة أن تلعبه من أجل استعادة الثقافة والفكر لمكانتهما الاعتبارية المفتقدة، لكنها لم تفعل: الزيادة »من حجم القراء بطبع سلاسل شعبية من كتب المعرفة وتوزيعها بثمن رمزي..«. ومعنى ذلك أنه يحمل المسؤولية في كل ذلك للحكومة عامة، وللوزارة الوصية عليه بشكل خاص، لأنها لم تنجح في الحيلولة دون مواصلة الواقع الثقافي لترديه. لقد تعقد الأمر أكثر مع دخول المعارضة، خاصة منها الإشتراكية، إلى الحكومة. المثقف المغربي الذي تعود طيلة عقود من الزمن، على اتخاذ موقف معارض تجاه الدولة (موقف اتحاد الكتاب مثلا)، وجد نفسه عاجزا، نظريا، عن التكيف مع الوضع الجديد؛ وعمليا، خاضعا لإكراهاته، مضطرا إما للخلود إلى الصمت (أين هو عبد الله العروي؟) أو للتباري في عرض خدماته، بحثا عن »مكان تحت الشمس«. هكذا ينجح بيان أحمد بوزفور، خلف ما تشي به سطوره الحادة الحازمة وأكثر من التعبير عن موقف شخصي في إثارة أكثر من موجة ضمن البركة الراكدة وإعادة السؤال إلى النقطة الصفر: ماذا يمكن للكاتب أن يقول ماذا يمكن للكاتب أن يفعل من أجل الديمقراطية نفسها، من أجل الحداثة ومن أجل المستقبل؟