As Safir Logo
المصدر:

»وجهة البوصلة« رواية السعودية نورة الغامدي الشهوات المكبوتة وازدواجية الحب والقهر

المؤلف: نصار سيمون التاريخ: 2002-10-30 رقم العدد:9340

تفاجئ نورة الغامدي القارئ في روايتها »وجهة البوصلة« الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات، تفاجئه بالموضوع وكيفية اختيارها له وباللغة التي تتخفف من كل ما يثقل بياضها حتى تنساب بتلقائية عجيبة وشيقة، لغة مخفرة على الاستمرار في القراءة حتى اللحظة الاخيرة، حين تختلط الاسماء بالاحداث بالحكايات التي تروى على مهل، وبتقنية روائية مفاجئة جدا. يكتشف القارئ منذ السطر الاول انه ليس امام رواية محض تقليدية حيث الكاتبة آتية من بلد لم يخرج كاتبات بهذا المستوى فالرواية هي شلال كلام من الحكايات الموغلة في الزمن الذي هو جزء مخفي من زمن الذاكرة التي تناثرت مع رياح الصحراء الليلية وكذلك المكان والشخصيات، وبينما تغدو الرواية رواية قضية النساء في بلد الروائية تصبح في الوقت عينه رواية كل النساء اللواتي يعشن التجربة نفسها والحياة الشبيهة عينها، هذه التجارب التي تمعن الراوية في فضح اسرارها انتقاما، بدون ان تحدد الهدف الذي تريد صب جام غضبها عليه، فيصبح الانتقام لونا من ألوان العبث، ويتحول فض الاسرار الى فعل تحرر من قسوة الذاكرة. زخارف تتكون رواية »وجهة البوصلة« من زخارف متنوعة تنصب جميعها في محور واحد، فالقارئ يدلف من باب الى باب ومن وجهة الى اخرى وتترابط كل التعددية في بناء الرواية تحت تركيب بسيط وأليف، ولكن معقد وصعب في الآن نفسه، حيث يحكم عالم الرواية ذلك الغنى غير التقليدي في الشخصيات التي يلعب كل منها دوره كاملا، بحيث يستحيل على القارئ تلخيص الرواية وحكاياتها التي تكتب من جوانبها الاربع كالبوصلة التي تتحكم بمصائر الشخصيات، وحتى بمصير الرواية نفسها. اما المرأة في الرواية ومجتمعها فهي تحب من اجل الحب الذي تعيش عليه، وغالبا حب رومانسي يلهج في الموت والغياب ويذوب فيه او في السفر الى بلاد داخل البلاد، مدن اخرى (جدة مكة المكرمة)، او خارج البلاد (دمشق الكويت)، او تحب كثيرا لمجرد الاحساس انها كائن حي. يختلط الحب بالجنس، بالقسوة، بالموت، بالغياب، بالدورة الشهرية او بالدم الفاسد. اللغة عند الغامدي، انثوية بامتياز. حتى يخال للقارئ انها شغلت بيدين ناعمتين كالحرير وشغوفتين حتى الدخول في قرارة النفس الانثوية المنمقة والاثيرية. وهي حين تتصنع الهروب من هذه السمة لا تقدر، بل نجدها تتجذر في انثويتها العارمة والطاغية. ولكن، الى هذا، فالكاتبة تملك اللعبة الروائية وادارة الشخصيات بحرفية عالية ومخيفة لناحية الدقة البالغة في العمل على شخصياتها. فتأخذ موقع الراوية »ناريمان« التي تتحول الى رمز للانوثة اللانهائية التي تتمظهر داخل الرواية في انها تعبق بأسرار الرمل الصحراوي الحالم وليل العالم المملوء ظلما وبراءة. فتعود »ناريمان« التي لم يذكر اسمها إلا مرة واحدة، تعود الى براءة الفراديس الاولى، الى الطهر الخالص من خلال سردها سلالة واطياف العائلة المتعددة الوجوه. ذلك الفردوس الذي لم تفض بكارته، الذي ارهقها وكسر قلبها بتقاليد تافهة ورجال ديكتاتوريين حيث الطفولة البريئة تكشف الفارق الشاسع بين الاناث المسحوقات والذكور الطغاة في مجتمع بلد الكاتبة. في مجتمع »بحسب الرواية« اقل ما يقال فيه انه بدائي ومتخلف وعنصري، حيث هناك لا زالت النساء تتزوج فيه من رجل ليس لا تعرفه وحسب، ولكنها ايضا لا تعطى فرصة لتحبه او تعرفه وكأنها كائن ناقص. خلق ليكون مسلوب الارادة والحقوق. اما الجنس، فلا تحصل عليه الا سرقة، ومن خلال الخداع او العلاقات السرية التي تفضحها الرواية بشكل يدنس المجتمع الذكوري ويلغي منه امتياز الشرف الذي يعيش عليه. العمة »بركة« وصلت الى سن اليأس ولم تفقد بكارتها و»طلقت بكرا« وفضة التي تزوجت رجلا لا تحبه، حاولت ان تخلص لانها نقية ونسيت حبها الكبير »لتامر« الطبيب. ولكنها جامعت زوجها دون ان ينتبه فحملت منه وهي تحلم بتامر. ولكنها ماتت لحظة توليدها »سأموت كما ماتت فضة مختنقة الفرج بجنينها الذي صرخ صرخة واحدة ثم لفظ انفاسه في المنطقة الحرجة«. وفي هذا الامر تبدع الكاتبة في وصف المشهد المقزز لعملية الولادة التي راحت فضة ضحيتها والمولود الذي لم يظهر منه سوى رأسه المزرق من فرج أمه. من هذه النقطة ندخل الى العالم السري للرواية »الجنسية« بكل ما في الكلمة من معنى، ولكن الجنس اللامرئي، والبعيد كل البعد عن عالمه الأليف، حيث الحب هو الاساس او المعادل الموضوعي الذي يمكن للفرد من خلاله قبول الآخر كجسد، قبل ان يتسنى لهذا الجسد ان يتحول الى آلة جنس لقمع جسد الآخر وسحقه في الاسفل، في السرير وفي المجتمع. وعلى هذا فإن علاقات الرواية جميعها منسوجة بخيوط مزدوجة التراكيب، الحب والجنس/ العائلة والجنس/ البراءة والجنس/ المثال والجنس/ الآخر والجنس، هذه الآخر الذي لا يتاح الا عبر الهاتف أو السفر الذي يتيح فرصاً ذهبية للقاء الحبيب ولمسه »وفي الصباح الثاني هرب بنا السبتي الى جدة، ومنها استقر بنا قرب المقام. كان الهرب نعمة فقد استمتعنا بصحبة تامر في أزقة مكة وحارسنا الأمين مآذن الحرم«. هذه الحكاية تضيء على معالم سفلية لمجتمع الرواية. تجعل منها مختبراً حقيقياً للأحاسيس التي تنبت لدى النساء في مجتمع ذكوري خالص ينتهك المرأة ويأكلها بحماية التقاليد السخيفة التي تعطيه الحق في بذر زرعه بها، وتعطيها الحق في التعامل معه كرجل دون وجه ودون ملامح، فقط لأنه رجل، ولا تكتمل حياتها بدونه. »دخلت الدار الواسعة منزوعة السلاح. أسيرة لرجل علقني بعقد نكاح قذر« و»أنت آدم الوحيد الذي لا يعرف انه ذكر الا من بابين اثنين... المرأة الطاغية والمرأة التافهة« و»أنا وحمود كنا السلع التي تبادلها الكبار في سبيل بقاء المصالح المشتركة«. هذه المصالح لا تعرف الأحاسيس والمشاعر، فتحول العلاقات الجنسية علاقات شاذة بالكامل. علاقة بالزوج وعلاقة بالآخر »وكيف لا أكون المرأة البارة وأنا ناضلت أشهراً في سبيل الحصول على فيلم تحدث عنه »تامر« عشرات المرات.. وشاهده »حمود« مئات المرات، وكلاهما يدفعانني لفعل المشاهدة بمهارة منضوجة«. لعب ليلي وتحيلها أيضا الى سحاق فاضح »... ننسى بمجرد ان نبدأ في اللعب الليلي أمام الفيديو الذي نسيه أحدهم وبداخله فيلم عجيب«. تسعى الروائية من خلال الراوية طيلة الوقت الى ايجاد معادلة صاخبة لعالم اللامرئيات. وهكذا تحاول جهدها لا تنطق باللغة المستترة المخفية في عالم اجتماعي تسوده ديكتاتورية الرجل، وعالم الجنس الموجود بكثرة، الراوية هي من اولئك النساء اللواتي تقودهن بوصلة الشهوات المضمرة الى اشباه الرجال وأحياناً كثيرة الى اللارجل من أمثال حمود وتامر، حيث الرجل »علامة« لا يمكن له ان يصبح رجلاً الا اذا كان قادراً على السفر داخل شرايين المرأة التي تمتلئ بالحب. اللعبة الجريئة في الرواية تقضي بتحول الراوية الى رواية، فهي التي تتكلم عن نفسها وهي التي تنوب عن فضة الغائبة ليكون النص محكياً بضمير الغائب. وعن الأهل الذين تشاطرهم لحظات الدفء والوجع والأمل، والراوية تلعب دور الحلقة الظاهرة والملموسة من سلسلة الزمن وعصب الأسلاف والسلامة الآتية من العبيد. وكأنها حين تتحول الى ضمير جماعي لأسلافها تستعيد الزمن الذي انقضى لتصبح في لمحة مرآة لجميع الشخصيات التي تزخر بها الرواية. اللافت في »وجهة البوصلة« التاريخ الذي تجري آخر أحداثها فيه، 1999. مما يحيلنا على طرح السؤال. هل ما زالت المرأة تعيش مثلما تخبرنا نورة الغامدي؟!

البحث في الأرشيف الكامل لجريدة "السفير" safir small logo

الكلمات الدالة