على مدى ثلاثة وثلاثين يوما من «حرب تموز»، ظلت تتكرر أسماء مدن وقرى لبنانية. الأسماء ارتبطت بالمجازر والاعتداءات الاسرائيلية والصمود الأسطوري الذي جعل بنت جبيل ومارون الراس وعيتا الشعب، عقدة العقد عند جيش لطالما تباهى بأنه لا يُهزم، فإذا به يجد نفسه عاجزا أمام مقاومين كلما فتحت لهم ممرات للهرب والانسحاب، كانوا يفاجئون خصمهم بأنهم يتضاعفون ويزدادون اندفاعا في قتال جعل الكثير من المدارس العسكرية في العالم تبحث عن سر العقيدة القتالية التي تشرّبها هؤلاء وطبيعة الأرض التي حضنتهم والبيئة التي حمتهم والروحية التي غمرتهم والتقنيات والأسلحة التي استخدموها طيلة ثلاثة وثلاثين يوما. في الذكرى السابعة لحرب تموز، استعادة لمشهد قرى وبلدات ـ معالم، أولها مارون الراس. كانت أيام عيد الفطر الأخير، في مارون الراس أشبه بعرس جماعي متواصل. غصت البلدة بمئات السيارات الوافدة إليها، وتحديداً إلى «حديقة إيران». من مارون التلة المشرفة على حيز واسع من فلسطين، وتحديدا الجليل الأعلى، يمكن مشاهدة جبل ميرون، جبل كنعان، الجبل الأحمر والجشّ، ورصد حركة السير في صلحا (احدى القرى السبع) التي تبدو كملعب كرة قدم تحت مارون الراس. هنا في مارون التي لا تزيح وجهها عن فلسطين والجولان ومعظم الجنوب، شُيدت «حديقة إيران»، وتحديدا في الجهة التي انسحب منها العدو بعد معارك استمرت 33 يوماً. الزوار يعاينون من التلة وحدقات المناظير، مساحات واسعة من فلسطين والجنوب اللبناني. لذلك، ما انفكت بلدة مارون الراس تشكل للعدو الإسرائيلي، ليس منذ عدوان تموز فحسب، بل منذ سنوات طويلة من الحروب والاحتلال، مصدر شهية دائمة نظرا لتمتعها بأهمية استراتيجية كبيرة. فهي تشرف على كل منطقة بنت جبيل كونها أعلى نقطة في منطقة جنوبي نهر الليطاني (حوالى 900 متر عن سطح البحر). وتشرف ايضا على عمق فلسطين المحتلة، وعلى مواقع العدو القريبة من الحدود اللبنانية. ربما تحول الاعتداءات التي تعرضت لها مارون الراس وإقدام العدو ثلاث مرات على تدميرها، دون لمّ شمل أهلها، في غير الأعياد والعطل الأسبوعية؛ ناهيك عن العامل الاقتصادي، الذي دفع بأكثر المزراعين والفلاحين إلى مغادرة القرية، بحثاً عن مصدر معيشي بديل؛ إذ انّ معيشة الناس كانت تعتمد بالكامل قبل تهجير العام 1978 على الزراعة، لكن هذه الأخيرة لم تعد تعيل غير نزر قليل، يقيم في البلدة طوال أيام السنة، سواء في بيوت أعيد بناؤها أو ترميمها بعد العدوان الأخير في 2006 على نفقة رجل الأعمال الكويتي الراحل ناصر الخرافي. تجدر الإشارة إلى أن معظم الأراضي الزراعية في مارون الراس، تقع في سهل منخفض بعد مرتفع حاد، تنبسط بعده الحقول حتى الأسلاك الشائكة التي تفصل الحدود اللبنانية عن فلسطين المحتلة. يؤكد مختار البلدة عبد الرحمن حسين فارس «أن مارون الراس تهدمت ثلاث مرات، وكل ما يظهر من بناء في البلدة هو جديد. جزء كبير منه بُني بعد التحرير في العام 2000 إلى جزء آخر بُني بعد عدوان 2006. لقد دكّت إسرائيل بيوت مارون الراس في العام 1978، ثم أقدم الاسرائيليون في العام 1982 على تدميرها بشكل شبه كامل. لكن في العام 2006 قدّر حجم الدمار الذي لحق بالبلدة بأكثر من 40 بالمئة». يفوق عدد القاطنين في البلدة حالياً، ما كان عليه قبل عدوان 2006. يتضاعف العدد صيفاً عما هو عليه شتاءً. ويشير المختار فارس إلى أن «180 عائلة تقطن في مارون الراس بعد حرب تموز، أي ما يبلغ 1500 نسمة من أصل 9000 نسمة، وهو العدد الإجمالي لأبناء البلدة. فيما ارتفع عدد البيوت بشكل لافت للانتباه بعد 2006. ولا يكاد يمرّ أسبوع، إلا ويقوم بيت جديد». يرصد الآتي الى مارون «فورة» البناء القائمة فيها. أبنية ذات طابع هندسي مميز (فيلات وقصور)، فضلاً عن تشييد أبنية من طبقات عدة. الدكاكين تنتشر بشكل متزايد؛ وهي صورة لم تكن موجودة سابقاً في مارون الراس؛ ويعزو صاحب أحد الدكاكين من آل علوية الأمر إلى أن «بلدتنا باتت مقصداً للزوار المحليين والعرب والأجانب». ويقول أحد وجهاء البلدة من آل علوية إن العدوان الاسرائيلي المستمر منذ العام 1978 «أدى الى نزوح جميع أبناء البلدة وانتشارهم في معظم الأراضي اللبنانية ودول الاغتراب، ولو توافرت فرص العمل ومقومات اقتصادية ناجعة، لعادت مارون الراس كسابق عهدها، تعجّ بأهلها. أما من يقيم في البلدة، فهو يعتاش من الزراعة دون غيرها، مع العلم أن المشكلة الأكبر التي نعاني منها، هي عدم توافر المياه بشكل طبيعي وخاصة في موسم الصيف». يطول حديث أبناء مارون الراس عن احتلال لم يزل حتى اليوم يقتطع مئات الدونمات من أراضي بلدتهم. هو احتلال الألغام الذي أوجده الجيش الإسرائيلي منذ مطلع السبعينيات؛ إذ أقدم على زرع الحقول القريبة من السياج الرئيسي الفاصل بين الحدود والحدود، بمئات الألغام، في مساحة يتراوح عرضها بين ثلاثين متراً ومئتي متر، على امتداد أكثر من ثلاثة كيلومترات. وبالرغم من مرور أكثر من 13 عاماً على التحرير وسبعة أعوام على عدوان تموز 2006، لم تتحرك أي جهة محلية أو دولية لتحرر حقول البلدة من رجس الألغام الاسرائيلية.