ذاكرة ثورة
(1) في كل عام، عندما يقترب يوم 23 تموز «يوليو»، ذكرى ثورة جمال عبد الناصر، تذهب بي الذاكرة إلى يوم 30 آذار، ذكرى غياب عصمت سيف الدولة، فتفتح الذاكرة ملف الذكريات، أغوص فيها، فتأخذني بعيداً عن البحث في تفسير الرابط بين الثورة والغياب. جمال عبد الناصر حاول تحقيق مشروع النهوض العربي من موقع قمة السلطة في مصر فخذلته السلطة وخذله «الناصريون» بعد ذلك، وعصمت سيف الدولة حاول تحقيق المشروع من القاعدة إلى القمة فخذله تلامذته وخذله «الأنصار» بعد ذلك. وكنت في مثل هذه اللحظة من كل عام أحسم أمري فأقرر إحياء المناسبة وحيداً، بعيداً عن ثرثرة «الناصريين»، وعن نكوص «الأنصار»، لكن غالباً ما كنت في اللحظة الأخيرة أخترق العزلة كي ألتمس العون من الجيل العربي الجديد فأخاطبه مستنجداً به كي يرمي عن كاهله عباءة جيلنا وفشلنا وهزائمنا وثرثراتنا وصراعاتنا «الدنكشوتية»، لعل هذا الجيل الجميل الرائع يعوّض قصورنا، فيتقدم لإنقاذ الأمة من المحنة التي طالت أكثر مما ينبغي عن طريق نضال ممنهج وجاد يستنهض ما بقي من حياء في جيلنا الهرم، فنغادر ثرثرة الصالونات، وتصنيم الرموز، وحفظ النصوص، ونلتحق بالشباب ولو على عكاكيزنا في المواجهة الملحمية لمشكلات الواقع، وإعادة التواصل مع الحاضنة الاجتماعية التي انفضّت عن احتضان مشروع نهضوي عربي لم تبخل عليه تلك الحاضنة الجماهيرية حتى بالأرواح، انفضت عنه بعد أن بات رموزه في حالة عجز شبه تام عن تقديم حلول ذات مصداقية للخروج من المحنة، انفضت عنه ورموزه يتبارون في البكاء على الأطلال، وكيل الشتائم للرجعية والإمبريالية والصهيونية، وكأن على تلك القوى المعادية لمشروع نهضة الأمة أن تكفّ عن عدوانها، أو أن تفرش الطريق إلى النهوض العربي بالزهور والرياحين. (2) واحد وستون عاماً على ثورة جمال عبد الناصر، وحال الأمة كما هو الآن، صدقوني أنني لم أجد العبارة المناسبة لتوصيف حالها، أليس من حق الأمة أن تسأل الفصائل التي رفعت رايات النهوض والتحرر والحرية والسيادة والتقدم لماذا حصل ما حصل؟ وعلى سبيل التخصيص ألا يقتضي ما حصل لهذه الأمة أن يسأل «الناصريون» أنفسهم أين هم من الراية التي رفعها جمال عبد الناصر، وبماذا هم «ناصريون»؟ إن السمة الأساسية لتجربة جمال عبد الناصر أنه انتقل بانقلاب 1952 العسكري من مجرد انقلاب إلى ثورة في السياق التاريخي لمشروع التحرر، والنهوض، والتنوير العربي... وفي هذا السياق الشامل للنهوض، والتنوير، أصاب وأخطأ، انتصر وانهزم، لكنه لم يرتدّ، ولم يتراجع، رغم الصعاب، ويصدق فيه قول أحد أجدادنا العظام: (ليس مَن طلب الحق فأخطأه، كمن سعى إلى الباطل فأدركه). لقد حاول تطويع أدوات، وأجهزة الضرورة الإقليمية، لتحقيق الأهداف النبيلة القومية التقدمية للأمة العربية، لقد كان جمال عبد الناصر منذ اليوم الأول للثورة وحتى آخر يوم في حياته محكوماً بأدوات، وأجهزة، ووسائل الضرورة... إننا، هنا، لسنا في وارد التبرير، وإنما في محاولة لتوصيف الحالة التي كانت راهنة صباح يوم 23 «تموز» 1952 فالأدوات، والوسائل التي كانت تحت تصرفه تتيح له تنفيذ الانقلاب على الملك عن طريق «الضباط الأحرار» لكن تبين في ما بعد ان تلك الأدوات، والوسائل، لا يمكن ان تكون الحامل لمشروع التحرر، والنهوض العربي الذي حمله جمال عبد الناصر، بل، ربما سيتم استعمالها، بمواجهته فقد تبين بما لا يدع مجالاً للشك أن الغالبية العظمى من أفراد تنظيم «الضباط الأحرار» لم يكن لها علاقة إيجابية بمشروع التحرر القومي العربي النهضوي، لذلك أدرك ضرورة تنظيم الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج لحسم المعركة، فقال: (إن القومية العربية ليست فقط حركة سياسية، إنما هي أيضاً فلسفة اجتماعية.. هي ضرورة استراتيجية، وكما هي شعارات، لا بد أن تكون أيضاً، تخطيطاً اجتماعياً، وكما هي (حلماً)، لا بدّ أن تترجم إلى مستوى معيشة لائق لجميع العرب، ذلك أنه لا كرامة لجائع، ولا قوة لمريض، ولا طمأنينة لمن لا بيت له، ولا مقاومة، ولا صمود، لمن لا يطمئن إلى غده، ولمن لا يشعر أن حوله مجتمعاً يكفله، ويرعاه، لا يسلبه حقه، ولا يستغله.. ومن ثم لا يهدّد حريته)، وقال: «لقد كان الكفاح من أجل الوحدة، هو نفسه الكفاح من أجل الحياة ولقد كان التلازم بين القوة، والوحدة أبرز معالم تاريخ أمتنا. فما من مرة تحققت الوحدة، إلا وتبعتها القوة.. وليس محض صدفة أن إشاعة الفرقة، وإقامة الحدود، والحواجز، كانتا أول ما يفعله كل من يريد أن يتمكن من الأمة العربية، ويسيطر عليها»، وقال، وهو يدعو لبناء التنظيم القومي: «أنا، لن أستطيع بأي حال أن أعمل الحركة العربية الواحدة. .. فإذا أنا حاولت أن أعمل الحركة العربية الواحدة معنى هذا أن هذه الحركة ستولد ميتة، لازم أن تكون الحركة العربية الواحدة نتيجة العمل النضالي، والكفاح في كل بلد عربي»، ذلك كان نداء جمال عبد الناصر في حياته، وتلك كانت وصيته في آخر أيامه قبل الرحيل الحزين، حيث وقف ليقول بوضوح لا لبس فيه: «القدس قبل سيناء، والجولان قبل سيناء، والضفة الغربية قبل سيناء..»، قال كلماته تلك، ومضى. كان مصطلح «الناصرية» قد ظهر في الإقليم الشمالي بُعيد فصله عن الجمهورية العربية المتحدة حيث تم إطلاقه على الذين رفضوا الانفصال ثم تمّ تعميمه مُطهراً من رجس الأجهزة الإقليمية في مصر التي انقلبت فور غياب ناصر وانتقلت إلى صفوف الزمر الإقليمية المعادية للمشروع التحرري في الوطن العربي، لكن تلك «الناصرية» تشرذمت إلى«ناصريات» وتاهت في متاهة الخلط بين الولاء لنظام الضرورة السياسي الذي اعتمده جمال عبد الناصر في مصر، وبين الأهداف الاستراتيجية التي منحها حياته، حيث كان ذلك النظام الشمولي وبالاً وعاراً على المشروع التحرري استنسخه بعد ذلك طغاة كثيرون بين المحيط والخليج لاحتواء مشروع التحرر والحرية والتقدم في الوطن العرب والإجهاز عليه، لذلك تحولت المجموعات «الناصرية»، والشلل التي حملت اسمه، من حل لمشكلة البناء المؤسسي لمشروع النهوض والتنوير العربي إلى مشكلة إضافية، لقد ظلت تلك المجموعات «الناصرية» قاصرة عن أن تكون الحامل لمشروع ناصر حياً، وهي للأسف الشديد، لا تزال أصغر من أن تغطي المسافات التي يفرشها ظله، غائباً. إن جمال عبد الناصر، لم يطلق نداء الدعوة، للحركة العربية الواحدة، إلا بعد، أن جرّب، وخبر، واختبر، كل، الوسائل الإقليمية الممكنة، وعندما سأله الوزير، والأديب الفرنسي «بنوا ميشان» عما إذا كان يتوقع انهيار الحركة القومية العربية، فيما لو توفي فجأة فقال: لا. إن القومية العربية هي التي خلقتني. لست أنا الذي حرّكتها بل... هي التي حملتني. إنها قوة هائلة، ولست أنا إلا أداتها المنفذة... ولو لم أكن موجوداً لأوجدت غيري، واحداً، عشرة، آلافاً آخرين ليحلوا... محلي. إن القومية العربية لا يجسّدها رجل واحد، او مجموعة من الرجال... إنها لا تتوقف على جمال عبد الناصر، ولا على الذين يعملون معه... إنها كامنة في ملايين العرب الذين يحمل كل منهم قبساً من شعلة القومية... إنها تيار لا يقاوم، ولا تستطيع أية قوة في العالم تحطيمها... طالما بقيت محتفظة بثقتها في ذاتها»، هكذا حدد جمال عبد الناصر أن البديل عنه كأداة منفذة للحركة القومية العربية متاح في ملايين العرب القوميين التقدميين الذين سيقيمون «التنظيم القومي»: «لأن الجموع التي جاءت أشياعاً متفرقة، وفلولاً متناثرة كانت تعطل الزحف المقدس إلى الهدف الكبير». ( 3 ) ثم بالتزامن مع الفترة التي كان فيها جمال عبد الناصر يُعدّ تنظيم الضباط الأحرار لإسقاط النظام كان عصمت سيف الدولة، ومن خلال الحزب الوطني، حزب عرابي ومصطفى كامل يجهّز «كتيبة محمد فريد» للعمل الفدائي، ويتجه بها إلى قناة السويس لقتال قوات الاحتلال الإنكليزي ويحمل معه إلى جانب السلاح مكتبة ضخمة للتزود بالمعرفة حتى في خنادق القتال، فيكتشف الأبعاد القومية العربية لمعركة التحرير والتقدم في مصر فشكل وأبدع ونظرّ للعمق المدني والفلسفي والفكري للحلم العربي، لقد أدرك مبكراً ضرورة بناء التنظيم القومي التقدمي كحامل وحيد لهذا الحلم، وما يتطلبه ذلك من أساس منهجي ومن ثم نظري ليقوم البناء التنظيمي شامخاً قادراً على إنجاز المهام الصعبة والشديدة التعقيد، هكذا بدأ بالتأسيس من خلال منهج «جدل الإنسان» ثم «نظرية الثورة العربية»، ثم «بيان طارق» الذي تضمن بناء التنظيم القومي على مرحلتين: مرحلة إعدادية: «أنصار الطليعة العربية»، ثم تنبثق منها: «الطليعة العربية». ذلك أن «أنصار الطليعة العربية»، هم أنصار لبناء «الطليعة العربية»، وليسوا تنظيماً بحد ذاتهم، وكان عصمت سيف الدولة يرفض تحويل «الأنصار» إلى تنظيم، ويرفض قيادة، أو تزعّم، أو توجيّه «الأنصار» لتحقيق غاياتهم، ذلك أن رأيه كان: أن عليهم، هـم، أن يتدبرّوا أمرهــم بدون زعيــم، وبــدون قائد، وبدون وصاية من أحد.. .نلاحظ هنا وحدة الموقف من بناء التنظــيم القــومي، فكما رفــض جمال عبد الناصر أن يكون هو باني «الحركة العربية الواحدة»، رفض عصمت سيف الدولة أن يكون هو باني «الطليعة العربية»، فيقول: «إن الجوهر الحقيقي المفيد، لدعوة «أنصار الطليعة العربية» هو كونها أسلوباً ديمقراطياً لتحقيق غاية في المستقبل. وهذه الغاية هي أن يقوم في الوطن العربي تنظيم قومي تقدمي يقود نضال الشعب العربي إلى الوحدة الاشتراكية الديموقراطية». للنص صلة