بعد مرور أربعة أعوام على إنجازها الفيلم الروائي الطويل الأول لها بعنوان «سكّر بنات»، حقّقت المخرجة السينمائية اللبنانية نادين لبكي فيلمها الروائي الطويل الثاني «وهلأ لوين؟»: قصّة متواضعة. قصّة عادية، شكلاً على الأقلّ: قرية معزولة، ينتمي أبناؤها وبناتها إلى الديانتين المسيحية والإسلامية. يعيشون مع بعضهم البعض منذ زمن بعيد. يأكلون ويشربون ويحبّون ويلعبون ويتسامرون ويختلفون. قرية تُشبه القرى الريفية والجبلية كلّها. تسامح وبساطة وألفة وتواصل. لكنها الحرب. التأثير الخارجي المقبل إلى القرية مسيء إليها وإلى ناسها. مرّت الحرب فيها وعليها، وانتهت. الضغط الخارجي يُمارس أبشع محاولاته لاختراق القرية وسلامها مجدّداً، وإن كان سلامها هشّاً ومنقوصاً: «الرجال متوترون»، قالت نادين لبكي. «النساء يسعين للحؤول دون وقوع الرجال هؤلاء في مشاحنات وخلافات، قد تؤدّي بهم وبهنّ وبالقرية إلى جحيم الحرب مرّة أخرى. تتّحد النساء لمنع التأثيرات الخارجية من إشعال نار الفتنة ثانيةً. لهذا، يستخدمن الوسائل كلّها لدرء الخطر عن أزواجهنّ وأبنائهنّ وقريتهنّ، وعن أنفسهنّ طبعاً. إنهنّ مستعدات لاستخدام أي وسيلة ممكنة، مهما كانت غريبة أو غير مألوفة، لبلوغ الهدف هذا. يُقدّمن تضحيات جمّة. يتجاوزن ذواتهنّ أحياناً. لا تمانع أية واحدة منهنّ من الاستعانة بخدمات نساء أوكرانيات مثلاً، لإلهاء الرجال عمّا يسعين لتحقيقه: إخفاء السلاح من المنازل. هذا كلّه بهدف منع الاقتتال مجدّداً داخل القرية، وبين رجالها». تناقضات ليس مهمّاً معرفة ما إذا نجحت النساء في تحقيق رغبتهنّ هذه أم لا: «لا تتعلّق المسألة بما إذا نجحن أم لا، بقدر ما ترتبط بالسياق المتكامل للحكاية. لا تنسَ أن الفيلم مبنيّ على واقع ومتخيّل في آن واحد. أمورٌ عدّة تحدث في القرية، يراها المرء غريبة وغير ممكنة الحدوث في الواقع. هذا مقصود منذ البداية. هذا مطلوب أيضاً، لأني أرى أن السخرية حاجة ملحّة في حالة كهذه. بين الواقع الجاد والمأسوي واللحظات الطريفة المتنوّعة، هناك مسار إنساني جمع الأحداث والتفاصيل والشخصيات. السخرية وسيلة لاستحضار القوّة، وتسخيرها لاستعادة العافية. أعتبر هذا الأسلوب ضرورة. أردتُ الفيلم كوميدياً ودرامياً في لحظة واحدة. أردته مثيراً للضحك، ودافعاً إلى الشعور بانفعالات أخرى كثيرة». غالب الظنّ أن الأحداث الدرامية كلّها تُحيل المُشاهد إلى لبنان وحربه والآثار المخيفة والمدمِّرة التي خلّفتها خمسة عشر عاماً من الحروب، وما تلاها من أعوام سلم هشّ ومنقوص. لكن، بعيداً عن أي إسقاط ممكن، بدا النصّ السينمائي مشغولاً بفكرتين اثنتين، على الأقلّ: الشرّ موجودٌ فينا، وتحديداً في الرجال. بينما النساء هنّ الخلاص المنتظر أو المتوقّع أو المطلوب: «ليس الجواب سهلاً. لا ألخّص المادة الدرامية والحكاية الفيلمية بهذا الاختزال. النساء لسن الحلّ. صحيح أن الشرّ موجود فينا. أن الشرّ كامنٌ في يومياتنا وتفاصيل عيشنا وأساليب تعاطينا مع أنفسنا ومع بعضنا البعض. هذا ما أشعر به يومياً. الدليل على ذلك: بمجرّد وقوع إشكال بسيط أو صغير أو تافه بين شخصين ينتميان إلى فئتين مختلفتين دينياً أو فكرياً أو سياسياً أو اجتماعياً، أو ينتميان إلى حزبين سياسيين مختلفين أو متناقضين، بمجرّد وقوع إشكال صغير كهذا لا علاقة له بالسياسة أو الدين أو الطائفة، «تشتعل الدنيا». منذ زمن طويل نسمع عن وقوع إشكالات كهذه، يذهب ضحيتها أفرادٌ شاركوا فيها، أو أفرادٌ لا علاقة لهم بها أبداً. يذهب ضحيتها أناسٌ عديدون، قتلاً أو إصابات جسدية. الشرّ موجود فينا. هذا أمرٌ مؤكّد جداً. ذلك أننا لم نتخطّ الأحقاد التي نمت بيننا وعاشت زمناً طويلاً معنا وفينا. أكاد أقول: لم يشأ كثيرون منّا أن يتخطّوا الأحقاد هذه، الواقعة في النفوس. أي عذر أو سبب أو حالة أو لحظة، يندفع الناس بسببها إلى حمل السلاح، والنزول إلى الشارع، والاقتتال فيما بينهم». تستعيد نادين لبكي اللحظات الرئيسة التي أفضت إلى بزوغ الفكرة الأولى للفيلم: «كان كل شيء يسير بشكل طبيعي، أو شبه طبيعي. كانت الأمور حسنة. فجأة، اندلعت أحداث السابع من أيار 2008. لا أتحدّث في الشأن السياسي. ما حدث جعلني أشعر أن حرباً أهلية اندلعت. سئلتُ مراراً عمّا إذا استوحيتُ فكرة الفيلم وقصّته من حقائق ووقائع. جوابي: لا. الفكرة نبعت من تجربة شخصية بحتة، لها علاقة بي كامرأة وأم، أولاً وأساساً. في السابع من أيار 2008 نفسه، اكتشفتُ أني حامل. عرفتُ أني سأصبح أمّاً في اليوم نفسه الذي شهد استعادة واضحة لمناخ الحرب الأهلية: حواجز على الطرقات. إقفال مطار بيروت الدولي. اشتعال حرائق. إطلاق رصاص وقذائف. قتلى وجرحى. إلخ. فجأة، انتشر العنف سريعاً في الأجواء كلّها. يومها، كنتُ أفكّر بفيلم جديد لي، مع صديقي وشريكي في الكتابة جهاد حجيلي. القتال في شوارع المدينة عنيفٌ. الذين تجاوروا لأعوام مديدة، وترعرعوا سوياً، وارتادوا المدرسة نفسها عاماً تلو آخر، أصبحوا يتقاتلون، لاختلاف الأديان والطوائف بينهم. يومها، سألتُ نفسي: عندما أُرزق بطفل، ماذا سأفعل كي أمنعه من حمل السلاح، والنزول إلى الشارع؟». أكّدت لبكي مجدّداً أن «الشرّ موجود فينا». رأت أن «ما من أحد تحرّر منه، أو تخطّاه». أضافت: «الجيل الجديد، الذي شعرنا ذات لحظة أنه قد يحمل أملاً ما لتجاوز هذا كلّه، يعيش الحالة نفسها، للأسف. كأننا لم نغسل الدم. كأننا لا نريد أن نغسل الدم. في كل مرّة، أو بالأحرى بين وقت وآخر، ندخل حرباً جديدة. نخوض صراعاً جديداً». ركّزت أيضاً على أن «الإحساس بالأمومة زاد الشعور هذا فيّ. لم أكن لأتعاطى بهذه الأمور ربما، لو لم أكتشف أني حاملٌ، في إحدى اللحظات المصيرية في لبنان. ربما لأني خفت على ابني، وتساءلتُ عن المصير الذي ينتظره، وعمّا سيعيشه، وكيف. لهذا كلّه، ربما، انخرطت في بلورة الفكرة وكتابة الفيلم. رودني حداد وجهاد حجيلي (شاركاها في كتابة السيناريو) شعرا بهذا أيضاً. نمضي أوقاتنا بمناقشة أمور لا علاقة لها بالفيلم. بمناقشة ما يجري حولنا. كانا يشعران بهذا أيضاً. بدأت الفكرة من قصّة أم تفعل المستحيل لمنع ابنها من حمل السلاح والنزول إلى الشارع. ثم تطوّرت الأمور، فإذا بنا نضع الأحداث في قرية، بلغ الأمر بنسائها حدّ الشعور بالقرف والغضب من ارتداء الأسود، ودفن الأحبّة، والبكاء على الراحلين. لم تعد النسوة يرغبن في ارتداء الأسود، ودفن الأحبّة، والبكاء على الراحلين. لهذا، يحاولن المستحيل لتجنيب القرية من الوقوع في العنف والحرب والدم والخراب. أقول إن الكيل طفح بهنّ، فابتكرن أموراً «غريبة» و«طريفة» أحياناً لمنع الانزلاق مجدّداً في آتون الخراب». ملاحظات هناك شخصيتا رجلي الدين، المسيحي (سمير عوض) والمسلم (زياد أبو عبسي). هناك مشكلة في أنهما عاجزان عن أن يكونا حقيقيين أكثر. مأزق التمثيل واضح. إنهما يمثلان، بدلاً من أن يكونا مندمجين في الشخصيتين. بدلاً من أن يكونا الشخصيتين. لم تشأ نادين لبكي أن يكونا قياديين أو شبيهين برجال الدين اللبنانيين: «تعاطيتُ معهما من منظار شخص يحلم أن يتصرّف رجال الدين بالطريقة هذه. أردت أن يكونا لذيذين و«مهضومين». لا أعرف. ربما حالة ضعف لم أعيها. عندما بدأت العمل على الفيلم، أنجزته بسرعة فائقة. أنهيت النسخة الأخيرة قبل ثلاثة أيام فقط من بدء الدورة الأخيرة لمهرجان «كانّ» (قسم «نظرة ما» في الدورة الرابعة والستين للمهرجان، المُقامة بين الحادي عشر والثاني والعشرين من أيار 2011). عندي نضوج واضح في العلاقة بالمكان والزمان. نضوج في الكتابة أيضاً. أعرف ماذا يشعر الناس. أتقبّل ملاحظة كهذه يسوقها شخصٌ مثلك. ما أشرتَ إليه ربما يكون صحيحاً. لكنّي لا أصل دائماً إلى الهدف الذي أريد. شخصياً، أحببتُ هاتين الشخصيتين تحديداً. مع هذا، أتقبّل ملاحظة نقدية. ربما لم أنتبه أو لم أكن واعية تماماً أثناء الكتابة والاشتغال. لا أعرف». في المقابل، هناك ملاحظة ثانية: مشاهد العراك بالأيديّ بين الشباب المنتمين إلى الديانتين السماويتين: «سأكون صريحة معك. لم يشأ أحدٌ خوض المجازفة أو المخاطرة. جاء من امتهن تدريب ممثلين على عراك بالأيدي. كنتُ ضد هذا الأمر. النتيجة: «مضبوط»، معك حقّ. العراك لا عنف كافياً فيه. هناك مسألة التأمين أيضاً. الخوف من أن ينعطب هذا الممثل أو ذاك. شعرتُ بهذا أيضاً». هناك مشهد رائع ومهم: الأم التي فقدت ابنها المراهق مؤخّراً، أثناء زيارته المدينة لشراء ما تحتاجه نساء القرية. في المدينة، قتلته الحرب. تهرع هي إلى الكنيسة. تخاطب العذراء. تهاجمها. تبكي أمامها فقدان ابنها. تسألها عن ابنها وعن ضرورة أن تحمي الناس. «تفشّ خلقها». تنتقدها: «أرى المشهد ذروة الإيمان. الأم الفاقدة ابنها تساوي بينها كأم وبين العذراء كأم أيضاً. أم مات ابنها تتحدّى أماً (مات ابنها أيضاً). أعتقد أنه يُمكن لأي أم عانت صدمة مقتل ابنها أن تحكي العذراء بالطريقة نفسها. يُمكن أن أطلِقَ النار على قدم ابني. يُمكن أن أدفع ابني إلى مشاهدة فيلم إباحي. يُمكن أن أفعل أي شيء كي أحمي ابني من الموت». انتهت نادين لبكي إلى القول إن قصّة الفيلم وأحداثه الدرامية مرآة شفّافة لتناقض حاصل في الحياة اليومية. الخُرافة عبثية. لكنها قريبة من الواقع إلى درجة يستحيل العثور معها على الفرق بين التناقضات: «الواقع خرافي بقدر ما هو سخيف وعبثي ولا منطقي. من هذا المنطلق، أحببتُ كتابة الفيلم. إذا ابتعدتُ عن السياسة، ولم يسمعني أحدٌ، أو لم ينتبه إلى أن الكيل طفح بي. إذا لم أشتغل في الشأن السياسي ولم أقتل أناساً. في الحالة هذه، أصنع فيلماً. الغضب موجود. الأسئلة أيضاً: ماذا نفعل؟ أنت تكتب مقالة. أنا أصنع فيلماً. هذا الغضب لا تستطيع أن تتركه في داخلك». بدءاً من بعد ظهر اليوم، يُعرض الفيلم في صالات «سينما سيتي» (الدورة) و«أمبير دون» (فردان) و«متروبوليس/ أمبير صوفيل» (الأشرفية) و«إسباس» (جونيه) و«أمبير سوديكو» (سوديكو سكواير) و«غالاكسي» (بولفار كميل شمعون) و«سيتي كومبلاكس» (طرابلس) و«أبراج» (فرن الشبّاك). ن. ج.